حياة

الكوفية الفلسطينية: حكاية نضال وهوية تتجاوز الرمز

السادس عشر من نوفمبر من كلِّ عام: يوم الكوفية الفلسطينية

أصبحت الكوفية الفلسطينية رمزًا لكفاح ونضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية، قبل أن تصبح رمزًا للتضامن العالمي مع القضية الفلسطينية حول العالم؛ فبعد مرور أكثر من عام على طوفان الأقصى تجاوزت تلك الكوفيةُ حدود فلسطين إلى كلّ دعاة التحرّر في العالم، فارتداها المتظاهرون في الاحتجاجات التي خرجت في جميع أنحاء العالم للمطالبة بإنهاء الحرب الإسرائيلية على غزة؛ وهي التي حرص الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات على الظهور بها، وارتداها الفدائيون والمتظاهرون داخل فلسطين وخارجها. وكانت صورة المناضلة الفلسطينية ليلى خالد متوشحة بالكوفية وتحمل بندقية، من أشهر الصور التي انتشرت في الصحافة العالمية، بعد مشاركتها عام 1969، في تنفيذ عملية خطف طائرة ركاب تابعة لشركة «تي دبليو إيه» الأمريكية وتحويل مسارها إلى سوريا بهدف إطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين ولفتِ أنظار العالم إلى القضية الفلسطينية، كما كان الزعيم ال​جنوب إفريقي الراحل نيلسون مانديلا أبرز من ظهر بها في مناسبات كثيرة، ويرتديها حاليَّا بعض زعماء أمريكا الجنوبية، والغريب أنّ يثير هذا الشعار الفلسطيني ذعر أنصار الكيان الإسرائيلي، فزعموا أنه «علامة على دعم التطرف»؛ وبسبب ذلك حدثت مواقف كثيرة، حتى وصل الأمر بالبعض أن يفقدوا وظائفهم بسبب ارتدائها. وأحدث موقف في هذا الشأن، أنّ متحف «نوجوتشي» في مدينة نيويورك الأمريكية، فصل ثلاثة موظفين في نهاية شهر سبتمبر الماضي، بحجة أنهم «انتهكوا قواعد الزي من خلال وضع الكوفية»، في إشارة واضحة إلى عدم السماح بالتعاطف مع الفلسطينيين الذين يتعرضون لأبشع إبادة في التاريخ من قِبل الصهاينة، وهو ما عبّرت عنه ناتالي كابيليني -وهي من الموظفين الثلاثة الذين فُصلوا- بأنّ «قيادة المتحف تستخدم مصطلح «سياسي» سلاحًا ضد القضية الفلسطينية».

لم يمر هذا الموقف مرور الكرام على جومبا لاهيري الكاتبة والأستاذة الجامعية الأمريكية من أصل هندي، الحائزة على جائزة «بوليتز»؛ فقد رفضت جائزة متحف «نوجوتشي» للفن للعام الحالي، وهي الجائزة التي تُمنح سنويًّا منذ عام 2014 «للأفراد الذين يشاركون مؤسس المتحف، روح الابتكار والوعي العالمي والتبادل بين الشرق والغرب».

لا يمكن أن يُنظر للكوفية الفلسطينية -أو أيِّ زيِّ آخر يرتديه شعبٌ ما- أنه مجرد موروث؛ فهو يمثل تاريخ وأصالة وثقافة ذلك الشعب. ومن هنا يمكن أن نعرف لماذا يحاول الكيان نهب تلك الكوفية وكلِّ ما هو تراث وموروث فلسطيني وتسويقه عالميًّا على أنه «إسرائيلي»؛ فالكيان نهب كلَّ ما هو فلسطيني وحاول أن يقدّمه للعالم على أنه جزء من «الهوية الإسرائيلية». ومن صور سرقة التراث الفلسطيني، ما نشرته صحيفة «جويش كرونيكل» اليهودية الصادرة في لندن في عام 2006، عن صورة لفتاة إسرائيلية ترتدي كوفية لمصمم إسرائيلي، قام بتقليد الكوفية الفلسطينية بعدما غيّر لونها للأزرق والأبيض (حسب ألوان علم الكيان)، وصمم تطريزها على شكل نجمة داود، في محاولة جديدة ضمن محاولات عديدة ومتكررة لنهب التراث الفلسطيني. كذلك فإنّ من ضمن محاولات السرقة أنه أقيم في عام 2015، عرض أزياء في تل أبيب تحت اسم «أسبوع تل أبيب للموضة»، ظهرت فيه العارضات يرتدين فساتين مصنوعة من الكوفية الفلسطينية بلونيها الأسود والأبيض والأحمر والأبيض، وزعم مصمم تلك الأزياء أنه أحضر الكوفيات من مدينة الخليل بغرض تصميم أوشحة وفساتين لاستخدامها ضمن مجموعة من تصاميم صيف عام 2016، زاعمًا أنّ الهدف من ذلك هو «خلق رمز للتعايش بين الإسرائيليين والفلسطينيين»، غير أنّ هذه الخطوة أثارت غضبًا شعبيًا عارمًا، بحيث رآها بعض الفلسطينيين فصلًا جديدًا من فصول النهب الإسرائيلي الذي لا ينتهي، خاصة أنّ المصمم الإسرائيلي وضع «نجمة داود» على الكوفية؛ فيما بلغت عملية السطو على التصاميم الفلسطينية ذروتها عندما ظهرت ميري ريغف وزيرة الثقافة الإسرائيلية خلال مشاركتها في افتتاح مهرجان «كان» السينمائي عام 2017 بفستان يحمل صورة للمسجد الأقصى وقبة الصخرة وحائط البراق، في إشارة واضحة إلى الرغبة في سرقة وطمس الهُوية الفلسطينية وتزييف التراث الفلسطيني، لأنّ ما أقلق الكيان الصهيوني هو أنّ فلسطينيي الشتات والمنافي البعيدة اعتمدوا أزياءهم، وخاصة الكوفية، بمثابة هويتهم أمام الآخر وطريقة رمزية لربطهم بوطنهم الذي لا يستطيعون العودة إليه، فكانت تحمل رمزية وطنية كبيرة أكثر من كونها مجرد قطعة ثوب.

من القرارات الجميلة في سبيل الحفاظ على الهُوية الفلسطينية، ما اتخذته وزارة التربية والتعليم الفلسطينية عام 2015، بجعل يوم السادس عشر من نوفمبر من كلِّ عام، يومًا للكوفية الفلسطينية، يحيي فيه الشعب الفلسطيني ومؤسساته التربوية في الوطن والشتات هذا اليوم باعتباره يومًا وطنيًّا يتوشح فيه الطلبة كافة، ومديرو المدارس والمعلمون والموظفون، بالكوفية، ويرفعون الأعلام الفلسطينية وينشدون الأغاني الوطنية والشعبية، وتنظم فيه أنشطة كشفية ورياضية؛ «كي تبقى الأجيال الناشئة أينما وُجدت متصلة برموز الهُوية الوطنية الفلسطينية؛ ليكون يومًا للشعور بالحرية ولربط الطلبة بالماضي والحاضر والمستقبل ولتعزيز وعيهم الوطني الأصيل»، حسب وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا».

هل يمكن لأيِّ كان أن يطمس هوية شعب يتمسك بتاريخه وتراثه وثقافته؟ لا يمكن ذلك؛ والدليل أنه رغم كلِّ المحاولات الإسرائيلية لتحقيق ذلك الهدف، فإنّ المشهد العالمي الحاصل منذ عملية «طوفان الأقصى» يؤكد أنّ عملية السطو على التراث الفلسطيني على مدار 76 عامًا باءت بالفشل، لسبب بسيط هو أنّ أصحاب التراث تمسكوا بتراثهم الذي أصبح رمزًا للنضال الفلسطيني، وبتنا نشاهد المتضامنين مع أهالي قطاع غزة والقضية الفلسطينية يتخذون من ارتداء الكوفية الفلسطينية خلال الاحتجاجات في أنحاء العالم كافة، رمزًا للتضامن مع الفلسطينيين؛ لذا فإنّ الكوفية نالت مكانة «الأيقونة» في ذاكرة الشعب الفلسطيني، كنوع من تكريس فكرة الثورة ضد المحتل، وضمان توارثها من جيل إلى جيل، وهو ما يؤرق الكيان الإسرائيلي ومناصريه بمجرد رؤيتها؛ تمامًا كما أرّقت قبعة المناضل تشي جيفارا الإمبرياليين، بعد أن تحولت إلى أيقونة يرتديها شباب العالم الذين رأوا فيه معبِّرًا عن أحلامهم.

من الصعب هزيمة ومحو شعب يتمسك بموروثاته الثقافية ولغته وعاداته وتقاليده، وهذا ما يفعله الفلسطينيون، وربما كانت الفنانة شادية منصور مغنية الراب البريطانية فلسطينية الأصل خير من عبّر عن ذلك في أغنيتها التي ظهرت بها وهي مرتدية ثوبًا فلسطينيًّا تقليديًّا وتعلن في أغنيتها: «هذه هي الطريقة التي نرتدي بها الكوفية.. الكوفية العربية (..) أنا مثل الكوفية.. لكنك صخرة لي.. أينما تركتني أبقى وفية لأصول بلدي الفلسطينية (..) يمكنك أن تأخذ فلافل وحمص بلدي ولكن، اللعنة، لا تلمس كوفية بلدي».

إنّ كلّ ما تحدثنا عنه عن الكوفية الفلسطينية سيبقى جانبًا، أمام الرمزية الكبيرة التي ظهر بها الشهيد يحيى السنوار في لحظاته الأخيرة، وقد غطى وجهه كاملا بالكوفية الفلسطينية، حتى لا يعطي الفرصة للصهاينة أن يتعرّفوا عليه ويأخذوه أسيرًا ذليلًا، مفضلًا الشهادة بشجاعة وشهامة، مما أعطى قيمة كبرى وإضافة جديدة لتلك الرمزية الفلسطينية، بعد أن انتشرت صوره في الأرض قاطبة.

  • المصدر: جريدة عُمان 11 نوفمبر 2024، زاهر المحروقي كاتب عُماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»

زر الذهاب إلى الأعلى