فيلم “فرحة”.. الصورة الحقيقية للنكبة الفلسطينية التي أغضبت إسرائيل
منذ أكثر من نصف قرن، تنشر إسرائيل روايتها الخاصة عن النكبة واحتلالها فلسطين. وتستخدم واحدة من أهم سبل إعادة كتابة التاريخ وهي الفنون، خصوصا فن السينما الأوسع انتشارا. في المقابل، لا تقدم السينما العربية سوى القليل من الأعمال التي تتناول وجهة النظر الأخرى من الحكاية، إضافة إلى أن القضية أصلا تعاني من التعتيم على المستوى العالمي.
أخيرا، استطاعت أفلام عربية الهرب من هذه الدائرة إثر انتشار المنصات الإلكترونية، فضلا عن إنتاج أعمال سينمائية جيدة بما يكفي للعرض في المهرجانات العالمية، ومنها الفيلم الأردني الفلسطيني “فرحة” الذي بدأ عرضه أخيراً على “نتفليكس” وأثار غضب إسرائيل، لأنه يعرض وجهة النظر التي يخفيها اليهود عن العالم طوال عقود.
“فرحة” قصة النكبة الحقيقية
فيلم “فرحة” مستلهم من قصة حقيقية لفتاة تحمل الاسم ذاته (فرحة) عاشت خلال أربعينيات القرن العشرين، قبل النكبة، في إحدى قرى فلسطين، وكانت تحلم بالانتقال إلى المدينة ودخول المدرسة، وبعد محاولات مضنية مع والدها وافق وتخلى عن العادات السائدة التي تستدعي زواج الفتاة في أقرب فرصة. ولكن تلك السعادة لم تستمر سوى يومٍ واحدٍ، وبعده مباشرة بدأت أحداث النكبة الفلسطينية (عام 1948).
يحاول الأب تهريب ابنته إلى المدينة، ولكنها ترفض، فيكون الحل حبسها في غرفة تخزين الطعام في باحة منزلهم لحمايتها من الجنود الإسرائيليين الذين يقومون بعملية “تطهير عرقي” لساكني القرى والمدن التي يدخلونها. تبقى “فرحة” في الغرفة المظلمة وحيدة لساعات لا تعرف عددها، لا يربطها بالعالم سوى كوة في الجدار، وباب أخفاه والدها قبل ذهابه للنضال في سبيل حرية قريته.
يأتيها الأمل عندما تدخل منزلها عائلة فلسطينية هاربة مكونة من أب وأم وبنتين، تلد المرأة طفلها الثالث، إنه صبي سمّاه والده محمد، وعندما تبدأ فرحة مناداة “أبو محمد” لينقذها من محبسها، يداهم المكان الجنود الذين يقتلون العائلة بالكامل بقسوة، ويتركون الرضيع على الأرض ليموت وحده، بينما تراقبه الطفلة التي لا تستطيع مساعدته أو مساعدة نفسها.
قصة النكبة الفلسطينية تحمل فظائع مثل تلك التي حدثت في فيلم “فرحة” -بل وبعضها أسوأ- عن عائلات قتلت بالكامل، وأخرى تم تهجيرها وتشتت أهلها في البقاع، والسكان الذين هربوا على الأقدام حتى حدود البلاد العربية المجاورة، ليصبحوا لاجئين على بعد كيلومترات قليلة من أرضهم الأم.
الجديد في “فرحة” هو عرضه على منصة “نتفليكس” الواسعة الانتشار، بعد مروره على مهرجانات عالمية، منها مهرجان تورنتو السينمائي و”بالم سبرنغز”. وعلى عكس أعمال عربية أخرى تناولت النكبة وفظائعها، استطاع هذا العمل الوصول إلى بلاد لم يسمع سكانها، ربما بالرواية الفلسطينية لأحداث النكبة.
إسرائيل غاضبة
ما إن بدأ عرض الفيلم على منصة “نتفليكس” وفي دور العرض، حتى بدأت موجة عارمة من الغضب في إسرائيل، إذ قال وزير الثقافة هيلي تروبر إن فيلم “فرحة” يصور “أكاذيب وافتراءات، وعرضه في دار عرض إسرائيلية وصمة عار”.
بينما خرج وزير المالية بالحكومة المنتهية ولايتها أفيغدور ليبرمان، قائلا “من الجنون أن نتفليكس قررت بث فيلم هدفه كله خلق رواية كاذبة وتحريض ضد الجنود الإسرائيليين”. وأضاف أنه سينظر في سحب تمويل الدولة من مسرح السرايا في بلدة يافا، ذات الغالبية العربية، التي عرضت الفيلم، بينما علق مدير دار العرض محمود أبو عريشة قائلا “جاء ردنا على التحريض ضد الفيلم بأننا مضينا في عرضه”.
إضافة إلى ذلك، نسقت الإدارة الإسرائيلية تصويتا إلكترونيا لخفض تقييم الفيلم عبر الإنترنت، فعمدت مجموعة من الحسابات غير الموثقة إلى تسجيل مراجعات سلبية لفيلم “فرحة” على موقع تصنيف الأفلام “آي إم دي بي” (IMDb) في حملة منظمة.
وبعد اللوم الإسرائيلي، تأثرت تقييمات الفيلم بشكل كبير، ففي مطلع ديسمبر/كانون الأول الجاري، انخفضت من 7.2 إلى 5.8 في غضون ساعات. ويبدو أن الكثير من المراجعات السلبية جاءت من المصدر ذاته، وتحتوي على تعليقات مماثلة، مثل وصف الفيلم بأنه “من جانب واحد” أو “كذبة كبيرة”. في المقابل، بدأت حملة تقييمات أخرى مناهضة للحملة الإسرائيلية، في محاولة لدعم العمل.
ورداً على الحملات الإسرائيلية، قالت مخرجة الفيلم دارين سلام إنه مستوحى من تجربة واقعية لامرأة لاجئة انتهى بها المطاف في سوريا، حيث أخبرت والدتها القصة.
وأصدرت مع الجهة المنتجة بيانا جاء فيه “تعرض فيلمنا لهجوم عنيف من المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين ووسائل الإعلام الإسرائيلية، وكذلك من أفراد إسرائيليين على وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات أخرى”.
وأضاف البيان “نحن فريق الفيلم ندين جميع الاتهامات لتشويه سمعة “فرحة” والحملة المنظمة ضد الفيلم على موقع “آي إم دي بي” لخفض تقييمه بشكل جذري، ومحاولات وقف عرض الفيلم في مسرح “سرايا يافا” والتهديدات الموجهة إلى الفيلم (…)”.
وأدانت الجهة المنتجة في البيان نفسه “هجمة رسائل الكراهية والمضايقات والاتهامات والتنمر من جانب الإسرائيليين، والتي تستهدف مخرجة الفيلم على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى وسائل الإعلام الأخرى” وتابعت “لن نتغاضى عن أي تهديدات ضارة لأي عضو في فريق فرحة”.
واعتبر البيان أن هذه المحاولات منافية لحرية التعبير، وتهدف إلى “تجريدنا من إنسانيتنا ومنعنا من سرد قصصنا وروايتنا وحقيقتنا”.
وعلى “تويتر” انطلقت أصوات أجنبية داعمة لفيلم “فرحة”. وغرّد الصحافي والباحث روبرت كارتر قائلاً “الغضب الإسرائيلي من الفيلم على نتفليكس حول النكبة الفلسطينية مزحة تامة. فقد أطلقت نتفليكس أطناناً من أعمال الدعاية المؤيدة لإسرائيل على مر السنين، ومع فيلم فلسطيني واحد تنهار مثل رقاقات الثلج”.
وكتب سي جيه ويرلمان تغريدة قال فيها “يصور فيلم فرحة الذي صدر حديثًا من نتفليكس القصة الحقيقية للنكبة، عندما مورس التطهير العرقي ضد 800 ألف فلسطيني من جانب إسرائيل عام 1948. هكذا تأسست الدولة الصهيونية المجرمة”.
وبعيدا عن هذه الضجة، أثبت فيلم “فرحة” نجاحه في المهرجانات التي عُرض فيها، بالإضافة إلى نيله عددا من الجوائز، مما جعله صوتا قويا وحقيقيا يروي وجهة النظر الفلسطينية في النكبة التي تحاول إسرائيل طمسها طوال أكثر من 7 عقود.